الصاروخ النازي “في تو” الذي استهل عصر الفضاء
- ريتشارد هوليغام
- مراسل الشؤون العلمية – بي بي سي
يصادف هذا الأسبوع الذكرى السبعين لأول هجوم بصواريخ “في تو” (V2) على لندن. وقد اكتشف ريتشارد هوليغام، مراسلنا لشؤون الفضاء، أن بعض مواصفات ذلك النوع من الصواريخ انتقلت إلى المركبات الفضائية التي تسبح في الفضاء اليوم.
في صباح يوم مشمس من عام 1944، كان والدي- الذي كان وقتها فتى يافعاً- ينتظر القطار في محطة كرومر على الساحل الشرقي لانجلترا. ومن ذلك المكان المرتفع كان يمد بصره عبر بحر الشمال ليرى هولندا التي وقعت تحت الاحتلال الألماني.
يقول والدي مستذكراً: “رأيت في الأفق ثلاثة صواريخ تنطلق في الجو ثم تختفي، وأنا على ثقة أنها كانت صواريخ (في تو)، لكنني لا أدري بالضبط المكان الذي سقطت فيه هذه الصواريخ.”
بلغ طول كل واحد من هذه الصواريخ 14 متراً، وكان يحمل 900 كيلوغرام من المتفجرات.
قُصفت لندن بهذه الصواريخ لأول مرة في الثامن من سبتمبر/أيلول عام 1944، مما أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة اثنين وعشرين آخرين.
وتميزت هذه الصواريخ عن كل من الطائرات، وعما سبقها أيضا من الصواريخ من طراز في-وان (V1)، بأنها تسقط وتنفجر في المدن المستهدفة كلندن، وباريس، وليل، ونوريتش، دون سابق إنذار.
أي أنك لا تسمع لها صوتا أثناء اقترابها. وكان الوقت الذي تستغرقه بين الإطلاق والانفجار لا يتجاوز خمس دقائق. وكان استخدام الألمان لهذه الصواريخ آخر محاولة منهم لتغيير مسار الحرب لصالحهم.
يواصل والدي تذكر تلك اللحظات فيقول: “فجأة سمعت صوت انفجار كبير في الطريق المجاور، وشاهدت على إثره سحابة من الغبار والشظايا ترتفع في الجو، وكان ذلك صاروخ (في تو)”.
أطلق الألمان أكثر من 1,300 من هذه الصواريخ على انجلترا، وبينما كانت قوات الحلفاء تواصل زحفها، أمطرت كل من بلجيكا وفرنسا بمئات أخرى منها.
تاريخ حزين
تشير التقديرات إلى أن حوالي 2,724 شخصاً قتلوا بسبب هذه الصواريخ في بريطانيا وحدها.
لكن الأكثر إثارة للحزن هو أن 20 ألف شخص قتلوا أثناء تصنيعهم لصواريخ (في تو) ذاتها.
يقول دوغ ميلارد، المؤرخ ومسؤول تكنولوجيا الفضاء في متحف العلوم بلندن: “لا ينبغي التغاضي عن هذه الأمور، لقد كان إنتاج صاروخ (في تو) مكلفاً جداً فيما يتعلق بالخسائر البشرية، حيث استخدم النازيون عمالاً بالسخرة في تصنيع هذه الصواريخ.”
فقد أرغم ذوو المهارات التقنية من السجناء في مراكز الاعتقال النازية على العمل على مدار الساعة في مصنع تحت الأرض يعرف باسم ميتيلويرك على مقربة من مركز باخنوالد للاعتقال وسط ألمانيا.
وقد حُرم هؤلاء العمال من ضوء النهار، وحصلوا على قليل من النوم و الطعام والنظافة. وقد أعدم عدد منهم لاتهامهم بمحاولة التخريب.
وتفيد روايات لشهود عيان بأن سجناء منهم أعدموا شنقاً فوق رافعات تعلو خطوط إنتاج الصواريخ.
وعلى الرغم من دوره في الظروف التي سادت مصنع ميتيلويرك، حظي المهندس فيرنهر فون برون بالتكريم كبطل من أبطال عصر الفضاء. لقد أدرك الحلفاء أن صاروخ “في تو” عبارة عن جهاز لا يشبه أي ماكينة قاموا هم بتصميمها وصناعتها.
يتوسط جسم ذلك الصاروخ محرك قوي قادر على حمل الصاروخ لارتفاع يزيد على 80 كيلومتراً عن سطح الأرض، ويعمل بوقود سائل مكون من الإيثانول والأكسجين، مما جعله أكثر تعقيداً ودقة من أي صاروخ صنع من قبل، وبالتالي يعد أول صاروخ فضائي.
ويقول ميلارد: “كانت هناك صواريخ أصغر حجماً تم تصنيعها خلال الثلاثينيات، لكن هذا الصاروخ كان أكبر وأبعد مدى. لقد كان “في تو” نقطة تحول تكنولوجية كبرى.”
المباديء الرائدة
من أهم التقنيات التي زود بها صاروخ “في تو” نظام توجيه آلي يعمل مستقلاً عن نظام التحكم على الأرض. وتبرمج المسافة التي سيقطعها الصاروخ على كمبيوتر مثبت بداخله.
وأثناء تحليق الصاروخ، تقوم الأجهزة التي تعرف باسم “الجيروسكوب” بداخلة بتتبع مساره بأبعاد ثلاثية. فإذا حدث أي انحراف عن المسار أو في الدفات المثبتة على جانبي الصاروخ، يُوجَه مسار الصاروخ تلقائياً ويُصوب نحو الهدف المحدد له.”
وبالتالي، ليس من المستغرب أن يتبارى الحلفاء لوضع أيديهم على تقنية صواريخ “في تو” بمجرد أن انتهت الحرب.
قرر مصمم الصاروخ المهندس فون برون تسليم نفسه للأمريكيين لعدم رغبته في العمل لصالح ستالين، بينما وضع الروس أيديهم على مصنع “في تو” وعلى مضمار الاختبار الخاص به.
يقول ميلارد: “فكك الأمريكيون والسوفييت صاروخ في تو إلى أجزاء بغية فك ألغازه، ونجح السوفييت في إعادة تصنيع الصاروخ بالكامل، بينما أخذه الأمريكيون إلى الولايات المتحدة لإجراء تجارب في الفضاء الخارجي.”
لقد أدرك الأمريكيون أن الأهم من مكونات الصاروخ هو العقل البشري الذي صممها، ومن هنا كانت أهمية حصولهم على المهندس فون برون.
ورغم أن الأولوية لدى الجيش الأمريكي كانت تطوير صواريخ باليستية عابرة للقارات، إلا أن الفرصة كانت متاحة للمهندس الألماني لتحقيق حلمه برحلة إلى الفضاء.
يقول ميلارد: “شرع فون برون في تصنيع الصاروخ الأمريكي (ريدستون) والذي كان اشتقاقاً مباشرا من صاروخ في تو. لقد انطلق ألان شيبارد، أول رجل فضاء أمريكي إلى الفضاء عام 1961 فوق صاروخ مطور من صواريخ ريدستون.”
آثار دائمة
وهكذا، فإنه من السهل ملاحظة الفرق بين صاروخ “في تو” الذي بناه عمال السخرة وأطلقه النازيون على أوروبا، وبين وصول أول أمريكي إلى الفضاء.
يقول ميلارد: “لقد وصلنا إلى القمر باستخدام تقنية صاورخ في تي التي تكلفت موارد هائلة، والتي شملت أيضا موارد قاسية”، مشيراً إلى عمال السخرة الذين استخدمهم الألمان في جهود التصنيع.
هل كان لنا أن نصل إلى القمر بدون السلاح الذي صنعه واستخدمه هتلر؟ الجواب هو نعم، ولكن ربما احتجنا إلى وقت أطول للوصول لهذه التقنية.
فكما هو الحال مع اختراعات تكنولوجية عديدة، عجلت الحرب من تطوير صناعة الصواريخ الحديثة، وشهد عصر الفضاء تسارعاً ملحوظاً.
حتى في هذه الأيام، تستخدم منصات الصواريخ التقنية ذاتها التي استخدمت منذ 70 عاماً.
فالمحرك المستخدم حالياً يشبه المحرك القديم، ومازالت الصواريخ تستخدم نظام التوجيه باستخدام تقنية “الجيروسكوب”، ويستخدم معظمها الوقود السائل لتشغيلها وإطلاقها، وكان لصاروخ “في تو” السبق في جميع هذه الأمور.
وقد شهد والدي في أحد أيام شهر سبتمبر/أيلول عام 1944 بداية ظهور عصر الفضاء.
يقول ميلارد: “في الواقع، لم تتغير الصواريخ كثيراً، فما زلنا نعيش في عصر صاروخ في تو.”